في كثير من البيوت، نرى الأب حاضرًا بجسده، لكنه غائب بروحه. قد يوفر الطعام والشراب والتعليم، ويكدّ في العمل لضمان الاستقرار المادي، لكنه قليل الكلام، لا يشارك أبناءه تفاصيل حياتهم، ولا يعبر عن مشاعره تجاههم. هذا النوع من الغياب يُسمّى “الغياب العاطفي”، وهو في كثير من الأحيان أكثر وجعًا من الغياب الجسدي الكامل.
ويزداد الأمر تعقيدًا عندما يُختزل دور الأب في مجتمعاتنا بدور الممول فقط، وتُستخدم صورته في التربية كوسيلة للترهيب لا للاحتواء. فكثير من الأمهات، بحسن نية، يستخدمن عبارات مثل: “لما بابا ييجي هقوله” أو “استنى لما بابا يشوفك”، ما يجعل صورة الأب ترتبط في ذهن الطفل بالخوف والعقاب. ولسوء الحظ، كثير من الآباء لا يصححون هذه الصورة، بل يؤكدونها من خلال ردود أفعال حادة أو عنيفة، فقط لإثبات سلطتهم أو تأكيد كلام الأم، دون محاولة لفهم الطفل أو احتوائه.
وهكذا، يصبح الأب في نظر أبنائه شخصية مخيفة أو بعيدة، لا مصدرًا للحب والدعم، فيُفقد دوره العاطفي أهميته، وتُترك فجوة نفسية قد تستمر لسنوات طويلة.
مين هو الأب الغائب عاطفيًا؟
الأب الغائب عاطفيًا مش لازم يكون مسافر أو متوفي. هو الأب اللي:
- مش بيعبر عن حبه لأولاده.
- مش بيسمعهم كويس أو مش بيشاركهم اهتماماتهم.
- دايمًا مشغول أو بيرفض يقعد معاهم.
- بيعتمد على الأم في كل حاجة تخص التربية والمشاعر.
- موجود في البيت، لكن كأن له جدار عازل بينهم وبينه .
لماذا يكون الأب غائبًا عاطفيًا؟
- التربية القاسية أو التقليدية التي تعلّم أن “الرجولة تعني الصمت والصلابة”.
- الانشغال الدائم بضغوط العمل أو الحياة الاقتصادية.
- عدم الوعي بأهمية التواصل العاطفي وتأثيره العميق على نفسية الطفل.
- مشاكل نفسية داخلية يمر بها الأب، لكنه لا يعبّر عنها ولا يطلب المساعدة.
أثر الأب الغائب عاطفيًا:
1- انخفاض الثقة بالنفس
عندما لا يشعر الطفل بأنه مسموع أو محبوب، يتولد داخله شعور بأنه غير كافٍ أو غير مهم، مما يؤدي إلى ضعف ثقته بنفسه وتقديره لذاته.
2- صعوبات في التعبير عن المشاعر
الطفل الذي لا يتعلم من والده كيف يعبر عن مشاعره، ينشأ وهو غير قادر على التعامل مع مشاعره أو فهمها، فيكبتها أو ينفجر بها في مواقف خاطئة.
3- البحث الدائم عن القبول
هذا النوع من الأطفال غالبًا ما يكبر وهو يبحث عن الحب والقبول من أي شخص، أحيانًا بشكل غير صحي أو حتى مؤذٍ.
4- مشاكل في العلاقات الشخصية
الغياب العاطفي يُنتج نماذج غير متوازنة من العلاقات، فيكبر الطفل وهو لا يعرف كيف يُكوّن علاقات قائمة على الثقة والمشاركة.
5- سلوكيات متمردة أو انعزالية
حسب طبيعة الطفل، قد يتجه للتمرد، العناد، أو حتى الإدمان على العزلة، هربًا من مشاعر النقص أو الاحتياج العاطفي.
كيف يمكن تعويض الغياب العاطفي؟
أولًا: خطوات الأب نحو التغيير
- ابدأ بالحوار البسيط: اسأل أولادك عن يومهم، اهتم بتفاصيل صغيرة.
- عبّر عن مشاعرك: قل “أنا بحبك”، “أنا فخور بيك”، حتى لو بدا الأمر غريبًا في البداية.
- اقضِ وقتًا حقيقيًا معهم: بدون مشتتات، حتى لو لربع ساعة يوميًا.
- اطلب الدعم النفسي إذا شعرت أن التواصل صعب أو أن هناك مشكلات أعمق.
ثانيًا: دور الأم أو الطرف الداعم
- شجعي الأب على التواجد العاطفي بدون لوم أو ضغط مباشر.
- عززي المهارات العاطفية عند الأبناء، وكوني مصدرًا آمنًا للتعبير والمشاركة.
- وازني بين دورك ودور الأب، فلا تحملي نفسك كامل المسؤولية، لكن لا تتركي فراغًا عاطفيًا يؤذي الطفل.
ثالثًا: كيف يتعامل الأبناء مع هذا النوع من الغياب؟
“للأبناء أنفسهم، خاصة عندما ينضجون ويدركون الوضع بشكل أدق.”
- افهم أن ما حدث ليس خطأك.
- اشتغل على وعيك العاطفي وتعلم كيف تعبّر عن مشاعرك بطرق صحية.
- واجه والدك إن استطعت، وعبّر له بهدوء عن ما شعرت به واحتياجاتك الآن.
- سامح إن استطعت، وتقبل حدود والدك النفسية، لكن لا تهمل احتياجاتك أنت.
في النهاية، الغياب العاطفي للأب ليس مجرد تقصير في التواصل، بل هو فجوة تمتد إلى أعماق نفس الطفل وتؤثر في شخصيته ومشاعره وعلاقاته على المدى البعيد. قد لا يدرك الأب حجم هذا الأثر، وقد لا يعرف من أين يبدأ، لكن التغيير لا يتطلب خطوات كبيرة، بل نية صادقة واهتمام حقيقي يبدأ بالإنصات، بالاقتراب، بكلمة حنونة، أو لحظة صادقة يقضيها مع أبنائه.
التواصل العاطفي ليس ضعفًا، بل هو قوة تصنع إنسانًا سويًا وواثقًا. وكل أب يستطيع أن يكون حاضرًا بقلبه، لا بجسده فقط، إذا قرر أن يُرى ويُسمع ويُحب، بصدق.
فالوقت لا يعود، لكن الفرص دائمًا موجودة، والبداية ممكنة في أي لحظة.
اترك رداً على Neama إلغاء الرد