(المقال الأول: الأسس والتطبيق العملي)
** مقدمة: شرارة التنوير الذاتي
في زحمة حياتنا المعاصرة، حيث تتسارع الأحداث وتتزاحم المهام، يبحث الكثيرون عن بوصلة تُرشدهم إلى حياة أكثر اتزانًا وإنتاجية وإنسانية. قد يبدو اللجوء إلى حكيم من القرن الثامن عشر غريبًا، لكن تجربة بنيامين فرانكلين (1706-1790) – ذلك العقل المتعدد المواهب بين العلم والسياسة والابتكار والأدب – تظل منارةً استثنائية في فن تطوير الذات. لم يكن فرانكلين فيلسوفًا منعزلاً في برج عاجي، بل كان رجل أعمال عمليًا، ومخترعًا فضوليًا، ودبلوماسيًا محنكًا، وأحد الآباء المؤسسين لأمريكا. إيمانه الراسخ بقدرة الإنسان على صقل شخصيته وتحسين قدراته قاده إلى ابتكار نظام بسيط عميق الأثر: “دفتر الفضائل”. هذه السلسلة من المقالات تأخذك في رحلة استكشاف لهذا النظام الخالد، لتفهم جذوره، وتستوعب جوهر فضائله الثلاثة عشر، وتتعلم كيف تُحيي فكرة الدفتر في حياتك المعاصرة لتُطلق العنان لإنسانيتك الكامنة.
وهنا وان كنا نقدم هذه الفضائل من وجهة نظر بنيامين فرانكلين فنحن نقدمها من باب رد الحقوق لاصحابها ولا ننكر على الرجل عميق الاثر الذى تركه بفضائله وكفاءة تصميم دفتره والتطبيق العملى
الا اننا ينبغى ان نتذكر دائما ان كل هذه الفضائل لها جذورها ومفاهيمها فى الدين الاسلامى والثقافات والحضارات المختلفة وسوف نجمع معا تلك الرؤى ما أمكن مع التقدم فى المقال
** نبذة تاريخية: من الصبي المتدرب إلى أيقونة التنوير
وُلد بنيامين فرانكلين في بوسطن بمستعمرة ماساتشوستس، لأسرة متواضعة. كان الطفل الخامس عشر بين سبعة عشر شقيقًا! اضطر لترك المدرسة في العاشرة من عمره ليعمل مع والده في صناعة الشموع والصابون، ثم أصبح متدربًا لدى أخيه جيمس، الذي كان يعمل في الطباعة. هذه البداية المتواضعة لم تُثنِ فضوله الشديد ونهمه للقراءة والتعلم. كان يقضي ساعات الليل في دراسة الكتب التي يستعيرها أو يشتريها بمدخراته القليلة.
هرب فرانكلين الشاب من تدريب أخيه إلى فيلادلفيا، حاملاً قروشًا قليلة في جيبه. هناك، بنى نفسه من الصفر في مجال الطباعة، ليصبح أحد أشهر الناشرين في المستعمرات الأمريكية. لم تكن شهرته قائمة فقط على الطباعة؛ فقد أسس أول مكتبة عامة بالإشتراك (مكتبة شركة فيلادلفيا)، وأول فرقة إطفاء تطوعية، والكلية التي أصبحت فيما بعد جامعة بنسلفانيا. تجاربه الشهيرة مع الكهرباء (بما في ذلك طائرة الورق الشهيرة في العاصفة) جعلته عالمًا مرموقًا على مستوى العالم.
لكن إسهاماته لم تقتصر على العلم. لعب دورًا محوريًا في الثورة الأمريكية وفي صياغة وثيقة الاستقلال ودستور الولايات المتحدة. كان دبلوماسيًا بارعًا مثل دوره في فرنسا أثناء الثورة، حيث حصل على دعم حاسم لأمريكا الفتية.
السؤال الذي يطرح نفسه: كيف استطاع هذا الصبي الذي ترك المدرسة مبكرًا أن يصل إلى هذه المراكز المتعددة ويُحدث هذا الأثر البالغ؟ الإجابة تكمن جزئيًا في إيمانه العملي بالتحسين المستمر للذات، والذي تبلور في مشروعه الشخصي الأكثر شهرة: السعي نحو “الكمال الأخلاقي” من خلال فضائل محددة و”دفتر الفضائل”.
** ميلاد الفكرة: الدفتر الذي غيّر مسار حياته
في عام 1726، أثناء رحلة بحرية عائدة من لندن، بدأ فرانكلين البالغ من العمر 20 عامًا في التفكير بجدية في تطوير شخصيته. لاحظ نقاط ضعف في نفسه وأراد معالجتها بشكل منهجي. كتب لاحقًا في سيرته الذاتية الشهيرة:
“صممت على السعي لبلوغ الكمال الأخلاقي… كنت أتمتع بخطة شاملة، لم يسبق لي تجربتها، وقد نجحت في بعضها على نحو يسر الناظرين.”
لكن ما هي هذه الخطة؟ لقد أدرك فرانكلين أن تغيير العادات الراسخة ليس بالأمر السهل. التحدي كان في التغلب على العادات القديمة واكتساب عادات جديدة جيدة. الحل الذي ابتكره كان عبقريًا في بساطته وفعاليته: “دفتر الفضائل” (Art of Virtue).
** جوهر النظام: الفضائل الثلاثة عشر
مفهوم فرانكلين للفضيلة:
لم يكن فرانكلين ينظر إلى هذه الفضائل كأوامر أخلاقية مجردة أو دينية بحتة، بل كـ “عادات مفيدة” تؤدي إلى:
- النجاح العملي: النظام والصناعة والاقتصاد تؤدي إلى ازدهار الأعمال والمشاريع.
- العلاقات الجيدة: الصمت والإخلاص والعدل والاعتدال (في الحديث) تُكسب احترام الآخرين وتُرسي الثقة.
- الصحة الجسدية والعقلية: الاعتدال (في الأكل والشرب) والنظافة والسكينة تعزز الصحة وتقلل التوتر.
- السلام الداخلي والرضا: التواضع والعفة والسكينة والوفاء بالعزيمة تمنح شعورًا بالتوازن والرضا عن الذات.
- المصلحة العامة: فضائل مثل العدل والإخلاص والاقتصاد (الذي يتيح التبرع للآخرين) تخدم المجتمع ككل.
باختصار، الفضيلة عند فرانكلين هي “الحكمة العملية” التي تحقق السعادة الفردية والمنفعة الجماعية. وهي مهارات يمكن اكتسابها بالتدريب، مثل أي حرفة أخرى.
لم يخترع فرانكلين الفضائل من العدم. فقد استقاها من قراءاته الواسعة في الفلسفة والأديان والتجارب الإنسانية، ثم صاغها بطريقته العملية الواضحة. حدد ثلاث عشرة فضيلة رأى أنها تشكل أساس الشخصية الفاضلة والحياة الناجحة. لكل فضيلة، وضع تعريفًا قصيرًا ودقيقًا يسهل تذكره وتطبيقه.
1 – الاعتدال (Temperance): لا تأكل حتى التخمة ولا تشرب حتى السكر واعتدل فى كل شئ .
2 – الصمت (Silence): تحدث بما ينفعك أو ينفع غيرك ، وتجنب الاحاديث التافهة .
3 – النظام (Order): اجعل لكل شيء مكانه ، واجعل لكل عمل وقته.
4 – العزيمة (Resolution): قرر ما يجب عليك فعله، ثم نفذ ما قررته دون إخفاق.
5 – الاقتصاد (Frugality): لا تنفق إلا على ما ينفعك او ينفع الاخرين ، ولا تهدر أي شيء.
6 – الاجتهاد (Industry): لا تضيع وقتك، واعمل دائمًا بشيء نافع ، وتجنب الأعمال غير الضرورية.
7 – الإخلاص (Sincerity): لا تستخدم الخداع المؤذي، فكّر بطهارة وعدالة، وإذا تكلمت فتحدث وفقاً لذلك .
8 – العدالة (Justice): لا تخطئ بأذية احد أو بنسيانك اداء واجبك نحوه و افعل ما هو صواب .
9 – الوسطية او التوازن (Moderation): تجنب التطرف، ولا تستاء من الأذى الا بقدر ما تراه يستحق.
10 – النظافة (Cleanliness): لا تتسامح مع عدم نظافة جسدك أو ملابسك أو مسكنك.
11 – الطمأنينة (Tranquility): لا تنزعج من الأمور التافهة، أو الحوادث الشائعة أو التي لا يمكن تجنبها.
12 – العفة (Chastity): استخدم العفة من أجل الصحة أو النسل فقط، ولا تستخدمها للضعف أو الإضرار بصحتك او سمعتك او بالآخرين.
13 – التواضع (Humility): قلد يسوع و سقراط .. التواضع في التعامل مع الآخرين وعدم التكبر.
هذه الفضائل ليست مجرد قائمة، بل هي مبادئ توجيهية وضعها فرانكلين لمساعدته على تطوير شخصيته وتحقيق الكمال الأخلاقي.
** قلب النظام: “دفتر الفضائل” – الأداة السحرية
هنا تكمن عبقرية فرانكلين العملية. لم يكتفِ بتحديد الفضائل، بل ابتكر أداة محاسبية بسيطة لمراقبة التقدم وترسيخ العادات. إليك كيف كان يعمل دفتره وكيف يمكنك تطبيقه:
- تصميم الدفتر: صنع فرانكلين دفترًا صغيرًا. في كل صفحة، خصص أسبوعًا واحدًا. رسم جدولًا بسيطًا: الأيام في الأعلى (من الأحد إلى السبت)، والفضائل الـ 13 في الجانب الأيسر.
- التركيز الأسبوعي: بدلًا من محاولة تطبيق جميع الفضائل مرة واحدة (وهو ما وجده مستحيلًا)، ركز على فضيلة واحدة فقط كل أسبوع. كان يبدأ بالاعتدال في الأسبوع الأول، مع الحفاظ على ما تعلمه من فضائل سابقة قدر الإمكان. في الأسبوع الثاني يركز على الصمت بالإضافة إلى الاعتدال، وهكذا. بهذه الطريقة، يدور دورة كاملة على جميع الفضائل كل 13 أسبوعًا (حوالي 3 أشهر)، ويُكرر الدورة أربع مرات في العام.
- المحاسبة اليومية: في نهاية كل يوم، كان فرانكلين يجلس مع نفسه ويراجع يومه. لكل فضيلة، يسأل نفسه: “هل أخطأت اليوم في تطبيق هذه الفضيلة؟” إذا أخطأ في فضيلة ما (حتى لو لم تكن هي محل التركيز الأسبوعي)، كان يضع نقطة سوداء صغيرة في مربع ذلك اليوم وتلك الفضيلة. الهدف هو أن تظل الصفوف خالية من النقاط السوداء قدر الإمكان.
- المراجعة والتعديل: لم يكن الدفتر مجرد سجل للأخطاء، بل أداة للوعي. رؤية النقاط السوداء تتراكم في فضيلة معينة تشير إلى منطقة تحتاج إلى جهد أكبر. سمح له هذا بمراجعة استراتيجيته وفهم نقاط ضعفه بشكل موضوعي، بعيدًا عن الانطباعات الذاتية.
لماذا كان الدفتر فعالاً؟
- زيادة الوعي: يجبرك على التفكير في أفعالك يوميًا وربطها بقيمك.
- التركيز التدريجي: يمنع الإرهاق ويسمح بتأسيس عادة واحدة بقوة قبل الانتقال للأخرى.
- التغذية الراجعة الفورية: النقاط السوداء هي مؤشرات مرئية واضحة على الانحرافات.
- المساءلة الذاتية: أنت القاضي والمحاسب لنفسك.
- المرونة: يمكن تكييفه حسب احتياجاتك وفضائلك الخاصة.
** كيف تنشئ وتستخدم دفتر فضائلك في العصر الحديث؟
لا حاجة لأن تكون نسخة طبق الأصل عن دفتر فرانكلين. المبدأ هو المهم. إليك خطوات مبسطة:
- اختر دفترك: يمكن أن يكون:
- دفترًا ورقيًا عاديًا (الأفضل للارتباط الحسي والابتعاد عن الشاشات).
- ملفًا في تطبيق للملاحظات على هاتفك أو حاسوبك (سهولة الوصول والتعديل).
- تطبيقًا خاصًا بتتبع العادات (Habit tracker) – لكن تجنب التعقيد الزائد.
- حدد فضائلك: لا تلتزم حرفيًا بـ 13 فضيلة. فكر في قيمك وأهدافك ونقاط ضعفك. ماذا تريد تحسينه؟ (الصبر؟ الانتظام في الرياضة؟ القراءة اليومية؟ التحكم في الغضب؟ العطاء؟). اختر 5 إلى 7 فضائل/عادات تريد العمل عليها. صغها بعبارات إيجابية واضحة وقابلة للقياس. مثال: بدلًا من “لا أغضب”، قل “أحافظ على هدوئي في المواقف الصعبة”.
- صمم صفحتك الأسبوعية: حتى بدون جداول:
- اكتب اليوم والتاريخ أعلى الصفحة.
- اكتب قائمة فضائلك المختارة على اليسار.
- اترك مساحة مقابل كل فضيلة لتسجيل ملاحظاتك اليومية.
- طبق نظام التركيز: اختر فضيلة واحدة لتكون “نجمة الأسبوع”. ركز جهدك الواعي عليها، مع محاولة الحفاظ على الفضائل الأخرى. غير “النجمة” كل أسبوع.
- المراجعة المسائية (الطقس الاهم ): خصص 5-10 دقائق قبل النوم. اسأل نفسك بصدق عن كل فضيلة:
- كيف تصرفت اليوم تجاه “نجمة الأسبوع”؟
- هل أخطأت في أي من الفضائل الأخرى؟
- بدل النقاط السوداء: اكتب ملاحظة صغيرة. لا تكتب فقط “فشلت”، بل صف الموقف باختصار واسأل: “لماذا حدث هذا؟” و”كيف يمكنني التعامل بشكل أفضل لو تكرر؟”. هذا التحليل هو جوهر التعلم.
- المراجعة الأسبوعية: في نهاية الأسبوع، اقرأ ملاحظاتك اليومية. ما هي الأنماط المتكررة؟ في أي فضيلة تراكمت الملاحظات السلبية؟ ماذا نجحت فيه؟ اكتب بضع جمل تلخص تقدمك وتعدل خطتك للأسبوع القادم.
نصائح للنجاح:
- لا تراقب كل الفضائل معًا، ركز على فضيلة الأسبوع فقط، وباقي الفضائل تُراجع بسرعة مساءً.
- الخطأ = عدم الالتزام بالتعريف المختصر للفضيلة (لا تفتعل التفاصيل).
** التطبيق في النواحي الإنسانية: أكثر من مجرد نجاح مادي
نظام فرانكلين ليس مجرد وسيلة لزيادة الإنتاجية أو الثروة (رغم أنه يفعل ذلك). إنه في جوهره أداة لـ “تطوير الذات الإنسانية” بشكل شامل:
- تعزيز الاستبصار والوعي الذاتي: المراجعة اليومية تجعلك أكثر وعيًا بدوافعك، ردود أفعالك، ونقاط قوتك وضعفك. هذا هو أساس النمو الشخصي.
- بناء الانضباط الذاتي والإرادة: المداومة على التتبع والمراجعة، ومقاومة الإغراءات اليومية الصغيرة (كالإفراط في الطعام أو الكلام غير المجدي)، تقوي عضلة الإرادة بشكل مذهل.
- تحسين العلاقات الإنسانية: فضائل مثل الصمت (الاستماع الفعال)، الإخلاص، العدل، التواضع، تجعلك شريكًا، صديقًا، زميلًا، وجارًا أفضل. تقلل الصراعات وتزيد الثقة والمودة.
- تحقيق التوازن الداخلي: السعي المتوازن نحو الفضائل المختلفة (العمل والراحة، الكسب والعطاء، الطموح والرضا) يقلل التوتر والقلق ويُشعرك بالسلام.
- تعزيز النزاهة والمسؤولية: الالتزام بفضائل كالإخلاص والعدل أمام نفسك أولاً يبني شخصية موثوقة ومسؤولة تجاه المجتمع.
- تنمية التعاطف: فهم صراعاتك مع عيوبك يجعلك أكثر تسامحًا وتفهمًا لصراعات الآخرين وأخطائهم.
- التحرر من العبودية الداخلية: التحرر من سيطرة العادات السيئة (الغضب، الإسراف، الكسل، الثرثرة) هو تحرر حقيقي يمنحك سيطرة أكبر على مصيرك.
** الخاتمة: بداية الرحلة الذهبية
لم يدّعِ بنيامين فرانكلين أبدًا أنه وصل إلى “الكمال الأخلاقي”. في سيرته، اعترف بصراعه المستمر، خاصة مع فضيلة النظام! لكنه أكد أن السعي نفسه جعله رجلاً أفضل وأكثر سعادة ونجاحًا مما كان ليكون بدونه. قال:
“مثل من يريد تطهير فناء داره، لا يحاول إزالة كل القذارة دفعة واحدة (لأن ذلك يفوق طاقته ووقته)، بل يعمل جزءًا جزءًا، كل يوم يفرغ مكانًا واحدًا، وهكذا أرجو أن أرى بوضوح تقدمي في التحسن، وهو ما يحفزني على المضي قدمًا.”
دفتر الفضائل ليس عصًا سحرية، بل هو خريطة ومجذاف. إنه التزام يومي بالوعي، والمراجعة، والتحسن التدريجي. في هذا المقال، وضعنا حجر الأساس: فهم روح نظام فرانكلين، واستعراض أولى لفضائله العملية، واستكشاف كيفية بناء وتفعيل دفترك الشخصي كأداة قوية لتطوير ذاتك الإنسانية.
في المقال القادم، سنغوص في عمق الفضائل وكيف تخدمك في عالم اليوم، وكيفية مواءمة تطبيقها مع دفترك لتحقيق مزيد من النمو والانسجام. ابدأ اليوم. خذ دفترًا، حدد فضيلتك الأولى، وابدأ رحلتك الذهبية نحو نسخة أفضل من نفسك. تذكر، الهدف ليس الكمال، بل التقدم المستمر. كل خطوة صغيرة في مراقبة ذاتك وتحسينها هي انتصار إنساني بحد ذاته.
اترك تعليقاً