الرحيل غير المكتمل: كيف تُعلّمنا الطبيعة فن التخلّي بسلام

إلهام

كانت ورقة الشجر الذابلة تتراقص بين أصابعي وكأنها تهمس بأسرار الكون قبل أن تسقط نحو مصيرها المحتوم. وقفت تحت تلك الشجرة العتيقة في حديقة منزلي وأنا أتأمل هذا المشهد المتكرر منذ آلاف السنين. تساقط الأوراق في الخريف – مشهد التخلّي – مشهد مألوف إلى درجة أننا ننسى عظمته. لماذا لا نقول إن الشجرة “فاشلة” عندما تفقد أوراقها؟ لماذا لا نراها “ناقصة” عندما تصبح أغصانها عارية؟ الإجابة بسيطة وعميقة في الوقت ذاته: لأنها ببساطة تكمل دورة حياتها.

في حياتنا، نمر جميعاً بلحظات – التخلّي – نشعر فيها بأننا نفقد شيئاً عزيزاً – علاقة، حلم، مرحلة عمرية، صورة ذاتية اعتدنا عليها. ونحن في خضم هذا الفقد، نعتقد أننا نتعرض لنقص أو فشل أو انهيار. ولكن الطبيعة من حولنا تقدم لنا درساً مختلفاً تماماً فى مفهوم التخلّي وهو : فن التخلّي بسلام.

**استعارة الخريف: دروس من شجرة متساقطة الأوراق**

تخيل معي هذه الشجرة الواقفة بكل شموخ وهي تفقد أوراقها واحدة تلو الأخرى. لا تقاوم، لا تتشبث، لا تحاول إجبار الأوراق على البقاء. إنها تدرك في أعماق كيانها أن هذا التساقط ليس نهاية، بل هو جزء أساسي من استمرار حياتها. كل ورقة تسقط تترك مكاناً لبرعم جديد سيظهر في الربيع القادم. كل فرع عارٍ يخزن طاقته للانفجار الحيوي عندما تحين اللحظة المناسبة.

في الثقافة اليابانية، يوجد مفهوم “الـ Mono no aware” الذي يعني التقدير العاطفي للجمال المؤقت، والإدراك الحزين والمبهج في الوقت ذاته لدوران عجلة الزمن. إنه ذلك الشعور المختلط الذي ينتابنا عندما نرى تساقط أوراق الخريف – فرح بحلول فصل جديد، وحزن لانتهاء فصل، وتقدير لجمال اللحظة الحالية المؤقتة.

كم منا يستطيع أن يتبنى هذه النظرة عندما يفقد وظيفته؟ أو عندما تنتهي علاقة عاطفية؟ أو عندما يدرك أن حلم الشباب لم يعد ممكناً؟ نحن نقاوم، نغضب، نحاول العودة إلى ما كان، نرفض قبول أن لكل شيء وقته.

**النهر: التدفق دون تمسك**

انظر إلى النهر العظيم وهو يجري من منبعه إلى مصبه. إنه لا يحاول العودة إلى الوراء، ولا يندم على المياه التي تدفقت منه بالفعل. إنه يستقبل كل قطرة مطر جديدة، وكل رافد صغير، ويواصل مسيرته. المياه التي مرت لا تعود، لكن مياه جديدة تأتي دائماً.

هكذا هي الحياة. نحن نتمسك باللحظات الجميلة الماضية وكأن تمسكنا سيُعيدها، ونرفض أن نفتح أذرعنا للحظات جديدة قادمة. النهر لا يخزن مياهه في خزانات، بل يسمح لها بالتدفق عبره. وعندما نسمح لحياتنا بالتدفق، نكتشف أن الفرح والحب والمعنى يأتون بأشكال جديدة لم نكن لنراها لو تشبثنا بما فات.

يقول الحكيم الصيني لاوتزو: “النهر العظيم يستمر لأنه يعرف كيف يتدفق حول العوائق لا من خلالها”. هذه الحكمة تذكرنا أن المرونة والتكيف هما سر الاستمرار، وليس القوة والصلابة.

**البذرة: الموت الضروري للولادة الجديدة**

هل فكرت يوماً في معجزة البذرة؟ إنها تحمل في داخلها شجرة كاملة، لكنها يجب أن “تموت” كبذرة أولاً. يجب أن تتحلل قشرتها الصلبة، أن يتفكك كيانها المألوف، أن تسمح للبرعم الصغير بأن يمزقها من الداخل كي تتحول إلى شيء أكبر وأعظم.

هذا هو بالضبط ما يحدث لنا عندما نواجه تحولات كبرى في الحياة. نحن نشعر بأننا نفقد هويتنا، كياننا، وجودنا. ولكن في الحقيقة، نحن فقط نتحول من بذرة إلى شجرة. كم من الأحلام التي حملناها في صغرنا كان يجب أن “تموت” كي ننضج؟ كم من الصور الذاتية التي اعتدنا عليها كان يجب أن تتحطم كي ننمو؟

في القرآن الكريم، يقول الله تعالى: “﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج:5]. الأرض الميتة الهامدة لا تيأس، لأنها تعلم في أعماقها أن المطر آت، وأن الاخضرار قادم. كذلك نفوسنا في فترات الجفاف والجمود – ليست نهاية، بل استعداد لبداية جديدة.

**القمر: اكتمال النقصان نفسه**

القمر لا يخاف من مرحلة المحاق (الظلام) لأنه يعرف أن الاكتمال عائد حتماً. بل إن دورته المتكاملة تقوم على هذا النقصان التدريجي والاكتمال التدريجي. في ثقافات كثيرة، يُعتبر القمر المكتمل جميلاً، لكن القمر الناقص له جماله المختلف – جمال الوعد، جمال الاستعداد، جمال التوقع.

هكذا نحن في حياتنا. نحن نريد أن نكون “مكتملين” طوال الوقت، ناجحين، سعداء، منتجين. ولكن الحقيقة أن حياتنا مثل القمر – فيها أيام اكتمال وأيام نقصان، وفي كلتا الحالتين هناك جمال ومعنى. عندما نرفض النقصان، نحرم أنفسنا من فرصة فهم دورات حياتنا الطبيعية.

** فن التخلي في حياتنا اليومية**

**التخلي عن العلاقات:**

عندما تنتهي علاقة – سواء كانت صداقة أو حباً أو قرابة – نشعر غالباً بالألم والخسارة. ولكن ماذا لو نظرنا إلى العلاقات المنتهية ليس كفشل، بل كاكتمال لدورها في رحلتنا؟ بعض الناس يدخلون حياتنا لفترة محددة ليعلمونا درساً، ليدعموا فينا جانباً، ليساعدونا في عبور مرحلة. وعندما ينتهي هذا الدور، يحين وقت الرحيل.

هذا لا يعني أن العلاقات غير مهمة، بل على العكس – كل علاقة ثمينة بشكل فريد. لكن تمسكنا بالعلاقة بعد انتهاء دورها يشبه تمسك البستاني بثمار الشتاء في فصل الربيع. يجب أن يسقط الثمار كي تنمو ثمار جديدة.

**التخلي عن الأحلام القديمة:**

كل منا يحمل أحلاماً من طفولته وشبابه. بعض هذه الأحلام يتحقق، وبعضها يموت، وبعضها يتحول إلى شيء مختلف تماماً. عندما نتمسك بحلم لم يعد مناسباً لشخصيتنا الناضجة، نشبه الفارس الذي يصر على ركوب حصان طفولته الصغير وهو قد كبر.

التخلي عن الحلم ليس خيانة لذاتك الصغيرة، بل هو احترام لذاتك النامية. إنه الاعتراف بأنك تعرف الآن ما لم تكن تعرفه حينها . وكما يقول المثل العربي: “رب ضارة نافعة” – فكم من حلم انتهى فتح باباً لرؤية جديدة، أوضح وأعمق.

**التخلي عن الذات القديمة:**

أكثر أنواع التخلي صعوبة هو التخلي عن الصور الذاتية التي اعتدنا عليها. نحن نعتقد أننا “شخص كذا” أو “صاحب دور كذا” وعندما تتغير ظروفنا، يجب أن نتخلى عن هذه الصور. المراهق الذي يتخلى عن طفولته، الشاب الذي يتخلى عن مرحلته الدراسية، الأب الذي يتخلى عن دوره عندما يكبر أبناؤه، الموظف الذي يتخلى عن منصبه عند التقاعد.

كل هذه تحولات تتطلب “موتاً” للصورة القديمة كي تولد الصورة الجديدة. والجميل في الأمر أن كل صورة جديدة تحمل في طياتها كنوزاً لم تكن موجودة في سابقتها.

**الخاتمة: دعوة للتأمل والسلام**

اليوم، وأنت تقرأ هذه الكلمات، ما الذي تحتاج أن “تتخلى عنه” في حياتك؟ علاقة انتهت دورتها؟ حلم لم يعد يناسبك؟ صورة ذاتية لم تعد تعبر عنك؟ دور لم يعد موجوداً؟ ألم يحن الوقت لأن تمنح نفسك الإذن بالرحيل بسلام

لا يعني التخلي عدم الاهتمام أو عدم الحب. على العكس، التخلي بسلام هو أعلى درجات الحب والاحترام – للذات وللآخرين وللحياة نفسها. إنه الاعتراف بأن لكل شيء وقته، ولكل شخص مساره، ولكل حلم دورة حياة.

كما قال جلال الدين الرومي: “اقبل بكل إخلاص أن الحياة ستأخذك من خلال الوديان والجبال. إنها رحلتك. تقبلها.”

وتذكر دائماً أن البذرة لا يمكنها أن ترى الشجرة التي ستصبح عليها، لكنها تثق في عملية النمو. وأنت أيضاً قد لا ترى الصورة الكاملة الآن، لكن الثقة في رحلتك هي ما سيقودك إلى بر الأمان.

في النهاية، ليس المهم كم مرة سقطت الأوراق من حولك، بل المهم أن تظل مثل تلك الشجرة العتيقة – واقفاً بشموخ، ضارباً في الأرض، عالماً في أعماقك أن الربيع قادم لا محالة، وأن كل رحيل هو مجرد تمهيد لعودة جديدة، وكل فراق هو استعداد للقاء مختلف،

وكل “نهاية” هي في حقيقتها جزء من “بداية” لم تراها بعد.

التعليقات

ردان على “الرحيل غير المكتمل: كيف تُعلّمنا الطبيعة فن التخلّي بسلام”

  1. الصورة الرمزية لـ وداد
    وداد

    ابدعت أ. اسماء، واخذتنا مع كل مثال الى حياة تنتهي لتبدأ اخرى في صور مرحلية تبعث الامل في كل مرة،لكل نهاية بداية…. وسبحان الله حتى الفقد الذي نتصوره نهائيا وهو الموت وهو اعظم الفقد نعيد وننبت من عجب الذنب الذي لايبلى ولايتحلل، لنلتقي مرة اخرى في اليوم المهيب، رزقنا الله اللقاء في جنة النعيم

  2. الصورة الرمزية لـ م . أسماء طلبة
    م . أسماء طلبة

    شكرا ا . وداد لكلماتك الطيبة 🩷 🩷 🩷
    رزقنا الله واياكم الفردوس الأعلى وجمعنا دائما على الخير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *