التنمّر وجع صامت خلف الابتسامات

التنمّر وجعٌ صامت، لا يَظهر دائمًا على الوجوه، لكنه يَترك أثرًا عميقًا في القلوب، فهو أكثر من مجرد كلمات قاسية أو تصرفات جارحة، إنه سلوك يؤذي الآخرين نفسيًا، وقد يدمّر ثقتهم بأنفسهم.

قد يحدث التنمّر في المدرسة، أو في العمل، أو حتى على وسائل التواصل الاجتماعي، وأحيانًا لا يشعر به أحد سوى من يتعرض له .

للأسف، كثيرون يظنون أن التنمّر مجرد مزاح، أو أنه لا يستحق الاهتمام، لكن الحقيقة أن هناك ضحايا يعانون في صمت، وقد لا يجدون من يقف بجانبهم أو يستمع إليهم.

في هذا المقال، سنتحدث عن معنى التنمّر، وأشكاله،أسبابه  وآثاره الخطيرة على الأفراد والمجتمع، وسنناقش كيف يمكن لكل واحدٍ منا أن يكون جزءًا من الحل، لا من المشكلة ، لأن التنمّر لا يجب أن يُواجه بالصمت، بل بالوعي، والتربية، والدعم.

التنمّر هو سلوكٌ عدوانيّ يُمارسه شخص أو مجموعة تجاه شخص آخر بقصد الإيذاء، سواء كان هذا الإيذاء لفظيًا (مثل السخرية والإهانة)، أو جسديًا (كالضرب والدفع)، أو نفسيًا واجتماعيًا (مثل العزلة أو نشر الشائعات).

ويتميّز هذا السلوك بأنه *متكرّر*، ويعتمد على استغلال المتنمّر لنوع من القوة أو السيطرة لإذلال الطرف الأضعف.

ببساطة التنمّر هو الإيذاء المتعمّد والمتكرّر لشخص آخر، بهدف التقليل من شأنه أو إحراجه أو السيطرة عليه.

ويتميّز هذا السلوك بأن المتنمّر يتعمّد فرض سيطرته على الضحية من خلال الإهانة، التهديد، العنف، أو العزل، وغالبًا ما يكون الدافع وراءه مشاعر داخلية سلبية مثل “الغضب، النقص، أو الرغبة في إثبات الذات” .

كل الأديان السماوية لا تقبل بالتنمّر ، أما التنمّر من منظور الدين الإسلامي ، فإن التنمّر مرفوض بكل أشكاله، لأنه يتعارض مع القيم الأخلاقية التي يدعو إليها الإسلام، مثل  (الرحمة، والعدل، واحترام الآخرين) .

وقد جاء في القرآن الكريم:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ

*(سورة الحجرات، آية 11)*

هذه الآية الكريمة تنهى عن السخرية والاستهزاء بالآخرين، لأن ذلك قد يكون فيه ظلم وعدوان وتحقير للناس، وهو ما يُمثّل جوهر فعل المتنمّر.

كما قال النبي محمد :

المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ

*(رواه البخاري ومسلم)*

فالتنمّر، سواء باللسان أو اليد أو حتى بالكلمة المكتوبة، يدخل في دائرة الأذى الذي يُنهى عنه في الإسلام.

عموماً التنمّر ليس فقط سلوكًا مرفوضًا اجتماعيًا، بل هو ” ذنب وأذى” يُحاسب عليه الإنسان، لأن الدين يدعو إلى ” التراحم والتعاون” ، لا إلى الإهانة والتسلّط.

يظهر التنمّر بعدّة أشكال، قد تكون واضحة ومباشرة، أو خفية وغير ملحوظة ، ومن المهم أن نتعرّف على هذه الأشكال حتى نتمكّن من التصدّي لها وحماية من يتعرضون لها ، فيما يلي أبرز **أشكال التنمّر** مع شرح وأمثلة لكل نوع:

وهو من أكثر أنواع التنمّر شيوعًا، ويعتمد على الكلمات المؤذية مثل :

* السخرية من الشكل أو اللباس أو طريقة الكلام

* إطلاق ألقاب جارحة (مثل: سمين، قصير، غبي…)

* الإهانة أو التحقير أمام الآخرين

* التهديد اللفظي أو الشتائم

يشمل الاعتداء الجسدي المباشر على الضحية مثل

* الضرب أو الدفع

* ركل الأغراض أو إتلاف ممتلكات الشخص

* القرص، أو الدفع بقوة، أو البصق

* تخويف الشخص باستخدام العنف الجسدي

يهدف إلى تدمير علاقات الضحية أو عزلها اجتماعيًا مثل

* نشر الشائعات والإشاعات

* تجاهل الشخص عمدًا أو منعه من المشاركة في الأنشطة

* تحريض الآخرين على عدم الحديث معه

* الإحراج أمام مجموعة من الناس

يحدث عبر الإنترنت أو الأجهزة الذكية، وهو الأكثر انتشارًا بين فئة الشباب مثل

* إرسال رسائل مهينة أو تهديدات عبر وسائل التواصل

* نشر صور محرجة أو معلومات خاصة بدون إذن

* كتابة تعليقات سلبية أو ساخرة على منشورات الآخرين

* إنشاء حسابات مزيفة بهدف السخرية من شخص معين

غالبًا ما يحدث من خلال استغلال المنصب أو القوة للتسلّط مثل

* مدير يستهزئ بالموظف أمام زملائه

* طالب يتنمّر على زميله الأصغر أو الأضعف

* تجاهل جهود الموظف أو منعه من فرص التقدّم

* فرض أعباء غير عادلة على موظف معين بشكل متكرر

التنمّر لا يقتصر على نوعٍ واحد، بل يتعدّد ويأخذ أشكالًا كثيرة قد تمرّ دون أن ينتبه إليها الناس، لذلك من الضروري أن نكون واعين لهذه الأشكال، كي نُميّزها ونقف في وجهها، لا أن نُبرّرها أو نتهاون معها.

التنمّر لا يحدث من فراغ، بل هو نتيجة لمجموعة من **العوامل النفسية، والاجتماعية، والتربوية** التي تؤثر في سلوك الفرد وتدفعه إلى إيذاء الآخرين. ومن المهم أن نفهم أسباب التنمّر حتى نتمكّن من معالجته والحدّ من انتشاره ، فيما يلي أبرز أسباب التنمّر:

بعض الأشخاص يمارسون التنمّر كطريقة لإثبات الذات أو التغطية على مشاعر الضعف الداخلي، فيُحاول المتنمّر أن يُقلّل من الآخرين ليرفع من قيمة نفسه.

الطفل الذي ينشأ في بيئة مليئة بالعنف، أو يتعرّض للإهمال، أو يُشاهد سلوكًا عدوانيًا من الوالدين، قد يُقلّد هذا السلوك ويستخدمه مع الآخرين.

بعض المتنمّرين يجدون متعة في فرض قوتهم أو هيمنتهم على من يعتقدون أنهم أضعف، خاصة في بيئات لا تُحاسب على هذا السلوك.

قد يتنمّر الشخص على من يراه أفضل منه في الشكل أو الذكاء أو المكانة الاجتماعية، بسبب شعور داخلي بالغيرة أو عدم الرضا عن النفس.

أحيانًا يمارس الأفراد التنمّر لأنهم يرون أصدقاءهم يفعلون ذلك، أو يتأثرون بمحتوى إعلامي يُظهر التنمّر على أنه مضحك أو مثير للإعجاب.

في بعض الحالات، يكون سبب التنمّر هو غياب دور الأسرة أو المدرسة في توجيه السلوك، أو عدم وجود عواقب واضحة تُردع المتنمّر عن الاستمرار.

في بعض الأحيان، قد يكون التنمّر ناتجًا عن مشاكل نفسية مثل اضطرابات السلوك، أو الغضب غير المُعالج، أو صدمات مرّ بها المتنمّر في الماضي.

فهم الأسباب وراء سلوك التنمّر لا يعني تبريره، بل يساعدنا على معالجة جذوره، سواء من خلال التوعية، أو الدعم النفسي، أو التربية السليمة التي تزرع في الأبناء الاحترام والتعاطف بدلًا من العدوان والتسلّط.

التنمّر ليس مجرّد موقف عابر أو مزحة ثقيلة، بل هو تجربة مؤلمة تترك آثارًا عميقة في نفسية الضحية وسلوكها، وقد تستمر هذه الآثار لسنوات طويلة حتى بعد انتهاء الموقف.

وفيما يلي أبرز الآثار السلبية التي يعاني منها ضحايا التنمّر :

يبدأ الضحية في الشك في نفسه وقدراته، ويشعر أنه أقل قيمة من الآخرين، مما يؤثر على شخصيته وطموحاته ومستقبله.

يعيش الضحية في حالة دائمة من الخوف، سواء من العودة إلى نفس البيئة أو مواجهة المتنمّر، مما يجعله دائم التوتر وضعيف التركيز.

قد يدخل الضحية في حالة من الاكتئاب بسبب الشعور بالرفض أو العجز عن الدفاع عن نفسه، وقد يفقد الاهتمام بالحياة أو الأنشطة التي كان يحبها.

يُفضل الضحية غالبًا الابتعاد عن الآخرين، سواء خوفًا من التعرض للتنمّر مجددًا أو لأنه يشعر بأنه غير مرغوب فيه، مما يضعف علاقاته الاجتماعية.

يعاني كثير من الأطفال والطلاب الذين يتعرضون للتنمّر من تراجع في الأداء الدراسي، بسبب التوتر أو فقدان الحافز. وكذلك الأمر في بيئة العمل بالنسبة للبالغين.

في الحالات الشديدة، قد تتطوّر المعاناة النفسية إلى **رغبة في إيذاء النفس** أو التفكير في الانتحار، خاصة إذا لم يجد الضحية الدعم أو المساعدة من الآخرين.

يتعرض بعض الضحايا لأعراض جسدية مثل:

* آلام في الرأس أو المعدة

* اضطرابات في النوم أو الأكل

* الشعور بالإرهاق الدائم، دون سبب عضوي واضح

التنمّر ليس مجرد تصرف سلبي، بل هو سبب مباشر في تدمير نفسيات وسلوكيات وأحيانًا حياة كاملة ، لذلك من الضروري أن ننتبه لكل ضحية، ونوفّر لها الدعم النفسي والاجتماعي الكافي، قبل أن يتحوّل الألم إلى أزمة.

مواجهة التنمّر ليست مسؤولية فرد واحد فقط، بل هي مسؤولية جماعية تبدأ من الفرد، وتشمل الأسرة، والمدرسة، والمجتمع، ووسائل الإعلام ، وكلّما ازداد الوعي بخطورة هذا السلوك، زادت قدرتنا على منعه والتقليل من آثاره.

إليكم مجموعة من الطرق الفعّالة لمواجهة التنمّر :

تشجيع الطفل أو الشخص المتعرّض للتنمّر على التحدث عن مشاعره، وتعليمه كيف يواجه المواقف بثقة وهدوء دون خوف.

الثقة بالنفس تقلّل من أثر التنمّر وتمنح الشخص قدرة على الرد بطريقة ذكية وغير عدوانية.

من المهم أن يعرف الضحية أو من يشاهد حادثة تنمّر أن الصمت يشجّع المتنمّر ،يجب التبليغ عن التنمّر للمعلّمين، أولياء الأمور، أو المسؤولين في مكان العمل أو المدرسة، لأن اتخاذ موقف حازم قد يوقف السلوك مبكرًا.

* الاستماع الجيّد للأبناء ومعرفة ما يمرّون به

* غرس قيم الاحترام والتعاطف منذ الصغر

* عدم التقليل من مشاعر الطفل أو تجاهلها

* المتابعة المستمرة لحالته النفسية والاجتماعية

* تطبيق قوانين واضحة ضد التنمّر ومعاقبة من يمارسه

* توعية الطلاب من خلال الندوات والأنشطة التربوية

* تدريب المعلّمين على اكتشاف حالات التنمّر مبكرًا

* توفير بيئة آمنة يشعر فيها الجميع بالقبول والدعم

* نشر الوعي بخطورة التنمّر وآثاره النفسية عبر وسائل الإعلام

* إنتاج محتوى يُشجّع على الاحترام والتسامح

* محاربة الصور النمطية التي تُظهر التنمّر كنوع من القوة أو “الطرافة

في بعض الحالات، يحتاج الضحية أو حتى المتنمّر إلى **تدخّل من مختص نفسي**، سواء لمعالجة آثار التنمّر أو لتعديل سلوك المتنمّر نفسه.

يجب على الآباء، المعلمين، والمدربين أن يكونوا قدوة في التعامل مع الآخرين بلطف واحترام، لأن الأطفال يتعلّمون من أفعالنا أكثر من أقوالنا

** مواجهة التنمّر تبدأ من الوعي، وتتحقق بالتربية، وتستمر بالتعاون بين جميع أفراد المجتمع ، فكل كلمة طيبة، وكل موقف دعم، هو خطوة نحو بيئة أكثر أمانًا وعدلًا.

مما تم عرضه في مقالنا من أسباب التنمر وآثاره، يتضح لنا أن المتعرض للتنمر ليس هو الضحية الوحيدة، بل إن كلاً من المتنمر والمتعرض للتنمر هما ضحيتان معًا، نتيجة للتنشئة والبيئة التي يعيشان فيها، كما أنهما ضحية لغياب المواجهة والاعتراف من الأهل بما يمر به أبناؤهم من مشكلات، وعدم السعي لمعالجتها بطريقة سليمة

التنمّر ليس مجرد تصرّف عابر أو خطأ يمكن تجاوزه بسهولة، بل هو سلوك خطير يُهدد كرامة الإنسان وسلامته النفسية، ويؤثر على مستقبل الأفراد والمجتمع بأكمله.

هو وجعٌ صامت، يتخفّى خلف الابتسامات، ويُعاني منه الكثير دون أن يملكوا الجرأة على البوح ، لكن الصمت لم يَعُد خيارًا.

علينا جميعًا أن نكون صوتًا لمن لا صوت لهم ، وأن نُربّي أبناءنا على الرحمة قبل القوة، والتقبّل قبل الحكم، والاحترام قبل المزاح .

مواجهة التنمّر تبدأ من كلمة، من موقف، من تربية صالحة، ومن وعيٍ حقيقي بأن **الكرامة الإنسانية لا يجوز المساس بها تحت أي ظرف**.

فلنقف جميعًا في وجه التنمّر

بأخلاقنا، بمواقفنا، وبقلوبٍ تعرف كيف تداوي، لا كيف تُؤذي.

التعليقات

ردان على “التنمّر وجع صامت خلف الابتسامات”

  1. الصورة الرمزية لـ وداد
    وداد

    كلام مهم ان يفهمه جميع الاولوياء الذي للاسف قد يكون احدهم يمارس التنمر على طفله دون فهم لاثر ذلك على نفسه وافعاله وقد يجعل منه متنمرا خارج البيت كذلك،اوممكن يرى انكسار ابنه دون ان يفهم انه متنمر به وغير ذلك كثير تطرقتي له، جزاك الله خيرا أ نادية على هذه المقالة المهمة ونفع بك

    1. الصورة الرمزية لـ نادية عطيفي
      نادية عطيفي

      وإياكم يارب ويستخدمنا دايما في المنفعة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *