**🩷 مقدمة: عندما تهب العواصف
الحياة رحلة لا تخلو من المنعطفات والصعاب، وتأتي بعض التحديات كالعواصف الهوجاء التي تهدد بقلب كل ما هو معتاد ومألوف. ومن أقسى هذه التحديات الاصابة ب سرطان الثدي، تلك الكلمة التي قد تهز أركان عالم المرأة، وتثير في نفسها عاصفة من المشاعر المتضاربة: الخوف، القلق، الحزن، والشك. في هذه اللحظات الصعبة قد يبدو الحديث عن مفاهيم مثل الامتنان وتوكيد الذات ضرباً من المستحيل . ولكن الحقيقة المذهلة، التي اكتشفتها نساء خضن هذه التجربة قبلنا، هي أن أعظم مصادر القوة تكمن في أكثر الأماكن غير المتوقعة: في عمق روحنا الإنسانية، وفي اتصالنا بالله تعالى.
هذه المقالة هي دعوة لإعادة اكتشاف الذات من خلال عدسة الامتنان، وتوكيد القوة الداخلية، والتعلق بحبل الله المتين. إنها محاولة لتحويل هذه المحنة إلى منحة، والمعاناة إلى درس، والألم إلى مصدر للنمو الروحي والإنساني. ليست رحلة إنكار للألم أو التحديات، بل هي رحلة مواجهة لها بأسلحة إيمانية ونفسية تمنحنا القدرة ليس على البقاء فحسب، بل على الازدهار في خضم العاصفة.
🩷 🩷 🩷 🩷 🩷 🩷 🩷 🩷
**🩷 فلسفة الامتنان – رؤية النور في ظلمة الخوف
الامتنان ليس مجرد شعور عابر بالشكر، بل هو فلسفة حياة، ومهارة نفسية يمكن تنميتها، وهو اختيار واعٍ لإعادة توجيه بوصلة تركيزنا من ما ينقصنا إلى ما نملكه، من الألم إلى البركة، ومن الخوف إلى الأمل.
🩷 الامتنان كعدسة جديدة للرؤية:
عندما تهبط كلمة “السرطان” كالصاعقة، يسهل على البصر أن يرى فقط الجوانب المظلمة: الألم الجسدي، رحلة العلاج المرهقة، الخوف من المستقبل، التغيرات في صورة الجسد. هنا يأتي دور الامتنان كعدسة نختار من خلالها النظر إلى المشهد الكامل. هو لا ينكر وجود الظلام، ولكنه يبحث عن نقاط الضوء التي لا تزال متاحة. هو أن تشكري الله على نعمة التنفس الذي يملأ رئتيك، على دفء الشمس التي تلمس وجهك، على عناق طفلك أو زوجك، على طعم كوب من الماء المنعش، على وجود طبيب صادق ، على دعوة صديقة مخلصة، على قوة جسدك التي تمكنه من محاربة المرض. الامتنان يحول تركيزنا من سؤال “لماذا أنا؟” الذي لا جواب له، إلى : “ماذا يمكنني أن أتعلم من هذه التجربة؟”، “ما النعم المخفية في هذا الابتلاء؟”، “كيف يمكن لهذه الرحلة أن تجعلنى انسانة ؟”.
🩷 الامتنان وتغيير كيمياء الدماغ:
أثبتت الدراسات أن ممارسة الامتنان المنتظمة تؤدي إلى تغييرات فعلية في الدماغ. فهي تنشط منطقة “القشرة الأمامية الجبهية” المرتبطة بالتفكير الإيجابي واتخاذ القرارات، وتقلل من نشاط اللوزة الدماغية المرتبطة بالخوف والقلق. عندما تمارسين الامتنان، فأنت لا تحسنين حالتك المزاجية فحسب، بل تبنيين بالفعل مرونة عصبية تساعدك على مواجهة الضغوط بشكل أفضل. جعل الامتنان عادة يومية – ربما من خلال تدوين ثلاثة أشياء تشكرين الله عليها في نهاية كل يوم، مهما كانت بسيطة – يمكن أن يكون أداة قوية مكملة للعلاج الطبي.
🩷 الامتنان في الموروث الروحي:
في تراثنا الإسلامي، يأتي الامتنان والشكر في مكانة عظيمة. فهو ليس مجرد رد فعل على النعم، بل هو عبادة يتقرب بها العبد إلى ربه. يقول تعالى: “لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ” (إبراهيم: 7). هذه الآية تحمل بشرى عظيمة. الشكر في أوقات الرخاء يزيد النعم، والشكر في أوقات الشدة – وهو الشكر الأثمن – يفتح أبواباً للعون والزيادة في القوة والصبر والطمأنينة التي قد لا تتخيلينها. إنه إقرار بأن الله حكيمٌ رحيم، لا يفعل شيئاً عبثاً، وأن هذه المحنة، رغم قسوتها، هي جزء من حكمة إلهية ستبدو معالمها مع الوقت. الشكر هو ا الباب الذي ندخل منه إلى رحابة الرضا بقضاء الله وقدره.
🩷 🩷 🩷 🩷 🩷 🩷 🩷 🩷
** 🩷 توكيد الذات – إعادة اكتشاف قوة الروح الأنثوية
في خضم معركة سرطان الثدي، قد تشعر المرأة بأن جسدها قد خانها، ، وأن ثقتها بنفسها تهتز. هنا تبرز الحاجة الماسة إلى توكيد الذات، ليس كشعارات سطحية، بل كعملية عميقة لإعادة بناء الهوية والتواصل مع القوة الجوهرية للروح.
🩷 ما هو توكيد الذات الحقيقي؟
توكيد الذات هو عملية التعرف على قيمتك الذاتية ، بغض النظر عن حالتك الصحية أو مظهرك الخارجي. هو أن تعلني لنفسك أولاً، ثم للعالم، أنكِ كائن ذو قيمة، قادر على التحمل، وجدير بالحب والاحترام. هو أن تفصلي بين “ذاتك” وبين “مرضك”. أنتِ لستِ “مريضة سرطان”، أنتِ “امرأة قوية تخوض معركة مع السرطان”. هذا الفرق بالغ الأهمية، فهو يحافظ على هويتك كإنسانة متكاملة، وليس مجرد تشخيص طبي.
🩷 كيف نمارس توكيد الذات عملياً؟
- الحوار الداخلي الإيجابي: راقبي الحوار الذي يدور في رأسك. بدلاً من أن تقولي “أنا ضعيفة”، قولي “أمر بيوم صعب، لكن لدي القوة لاجتيازه”. بدلاً من “أنا خائفة”، قولي “أشعر بالخوف الآن، لكني أثق في الله وفي قدرتي على التكيف”. استبدلي لغة الإدانة بلغة التعاطف مع الذات.
- تأكيدات يومية : اختاري عبارات إيجابية ترددينها يومياًلنفسك :
- “أنا قوية وجميلة، وجديرة بالشفاء.”
- “أنا محاطة بمحبة الله ودعم أحبتي.”
- “كل يوم جديد يقربني من العافية والصحة.”
- إعادة تعريف الجمال والقوة: توكيد الذات يعيد تعريف هذه المفاهيم . القوة ليست في الشعر الكثيف، بل في النظرة الثاقبة للعين التي رأت الألم وتعلمت الدرس. الجمال ليس في الشكل فقط، بل في رقة المشاعر، في قوة الإرادة، في شجاعة المواجهة. انظري إلى ندبة العملية الجراحية ليس كعيب، بل كندبة شرف تروي قوة بطولة في معركة الحياة.
- الاستماع إلى الحاجات: توكيد الذات يعني أيضاً أن تسمعي صوت حاجاتك وتحترميها. إذا كنتِ متعبة، فاسمحي لنفسك بالراحة. إذا كنتِ بحاجة إلى الحديث، فاطلبي الدعم. إذا أردتِ الصمت، فاحمي مساحتك. أن تكوني حازمة في الاعتناء بنفسك هو أعلى درجات توكيد الذات.
🩷 التوازن بين توكيد الذات والتوكل:
لا يتعارض توكيد الذات مع التوكل على الله، بل يكملان بعضهما . أنتِ تؤكدين على قدراتك التي منحكِ إياها الله، وتثقين بأن مصدر هذه القدرات هو خالقك. أنتِ تبذلين الأسباب من خلال الاعتناء بنفسك نفسياً، وتتوكلين على الله في النتيجة. هذا التوازن يمنحكِ سلطة شخصية وسلاماً روحياً في آن واحد.
🩷 🩷 🩷 🩷 🩷 🩷 🩷 🩷
** 🩷 الشكر لله – حبل النجاة المتين في بحر الألم
إذا كان الامتنان هو الشعور، فإن الشكر لله هو التعبير العملي والروحي عن هذا الشعور.
🩷 الشكر على النعم رغم الألم:
إنه التحدي الأكبر: أن تشكري الله وأنتِ تتألمين، أن ترفعي كفيكِ بالدعاء وتحمديه وأنتِ تشعرين بالإعياء. هذا النوع من الشكر هو الذي يرفع المقام عند الله. فالنعم لا تزال تحيط بكِ، لكن العين قد تعشى عنها نتيجة سطوة الألم.
الشكر يذكركِ بها: نعمة الإيمان، نعمة الأمل، نعمة الطب الحديث، نعمة وجود عائلة وأصدقاء، نعمة القدرة على الصلاة والعبادة. الشكر في الضيق هو اختبار حقيقي للإيمان، وهو يثبت أن حبكِ لله وثقتكِ به ليستا مرتبطتين بالراحة فقط، بل ثابتتان في السراء والضراء.
🩷 الشكر كسلوك عملي:
كيف يمكن أن نترجم الشكر إلى أفعال خلال رحلة العلاج؟
- الصلاة والدعاء :
- “اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر.” – أداء هذا الدعاء في الصباح والمساء يضع اليوم في إطار النعمة.
- سجود الشكر: كلما شعرتِ بلحظة راحة، أو بنتيجة علاجية إيجابية، أو حتى بمشاعر إيجابية، سارعي إلى سجود الشكر، لتعبري عن امتنانك لله بطاعة جسدية.
- شكر الناس: كوني شاكرة للطاقم الطبي، لعائلتك، لأصدقائك. كلمة شكر صادقة لهم هي في الحقيقة شكر لله الذي هيأهم لكِ.
- العطاء من موقع الألم: حتى في ألمك، إذا استطعتِ أن تقدمي كلمة طيبة لامرأة أخرى تخوض نفس التجربة، أو مشاركة تجربتك لإلهام الآخرين، فهذا من أعلى درجات الشكر العملي. أنتِ تحولين ألمك إلى نور يضيء لغيرك.
🩷 🩷 🩷 🩷 🩷 🩷 🩷 🩷
** 🩷 الاستعانة بالله – مصدر القوة الذي لا ينضب
في النهاية، بعد كل جهد نفسي وروحي، ندرك أن قوانا البشرية محدودة. هنا تأتي الاستعانة بالله كملاذ أول وأخير، كمصدر لا ينضب للقوة والطمأنينة.
🩷 الفرق بين الاستعانة والتواكل:
الاستعانة بالله لا تعني الجلوس وانتظار المعجزة. بل هي توثيق للعلاقة مع المصدر الأول للقوة، ثم الانطلاق لاستخدام كل الأسباب المادية المتاحة. أنتِ تذهبين إلى أفضل الأطباء، تتبعين أحدث البروتوكولات العلاجية، تهتمين بتغذيتك – هذه كلها أخذ بالأسباب – ولكن قلبكِ ليس معلقاً بهذه الأسباب، بل معلق بالله الذي بيده ملكوت كل شيء. يقول تعالى: “فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ” (آل عمران: 159). عزيمتك هي الأخذ بالأسباب، وتوكلك هو تفويض الأمر لله بعد ذلك.
🩷 كيف نستعين بالله عملياً؟
- الدعاء: سلاح المؤمن: اجعلي من الدعاء حواراً صادقا مع خالقك. ادعيه بكل ما في قلبك، بلا تكلف. اطلبي الشفاء، اطلبي القوة، اطلبي الصبر، اطلبي الطمأنينة. لا يوجد طلب “صغير” أو “تافه”. قال تعالى: “ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ” (غافر: 60). استعيني بأدعية الأنبياء: “رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ” (القصص: 24)، أو “حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ” (التوبة: 129).
- الصلاة: منبع السكينة: حتى لو كنتِ لا تقوين على القيام بكل الصلوات في أوقاتها بكامل هيئاتها، حافظي على الصلاة بقدر استطاعتك. الصلاة هي الموعد اليومي الذي تلتقين فيه بخالقك، تفرغين فيه همومك، وتستعيدين فيه شحن طاقتك الروحية. فيها تقرئين كلام الله الذي يطمئن القلوب “أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ” (الرعد: 28).
- الذكر: العلاج المستمر: اجعلي لسانك رطباً بذكر الله في كل وقت: في انتظار العيادة، أثناء تلقي العلاج الكيماوي، في لحظات الأرق ليلاً. “لا إله إلا الله”، “سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر”، “حسبي الله ونعم الوكيل”. هذه الكلمات كالماء البارد على النار، تطفئ نار الهم والقلق، وتذكركِ بأن الحفيظ لا يغفل عنكِ طرفة عين.
- التفكر في خلق الله: انظري إلى إبداع خلق جسدك، وكيف أن جهازك المناعي يحارب بشراسة. تأملي في تعاقب الليل والنهار، في دورة الحياة. هذا التفكر يوسع منظورك، ويذكركِ بأنكِ جزء من كون عظيم يديره خالق حكيم عليم، لا يقع في ملكه إلا ما يشاء، وكل شيء عنده بمقدار.
🩷 🩷 🩷 🩷 🩷 🩷 🩷 🩷
** 🩷 خاتمة: من محنة الثدي إلى منحة القلب
أختي الكريمة، التي تخوضين أشرس المعارك بروح وثابة،
رحلة سرطان الثدي هي بلا شك رحلة محفوفة بالتحديات الجسدية والنفسية. ولكنها أيضاً، لمن اختار أن ينظر بعين البصيرة، رحلة تحول روحي عميق. هي رحلة عودة إلى الله، إلى جوهر الحياة الذي كنا نغفله في زحام الحياة.
من خلال الامتنان، نغسل أعيننا لنرى النعم التي كانت تحيط بنا طوال الوقت. ومن خلال توكيد الذات، نكتشف أن في داخلنا قوة لا تعرف الكلل، وجبروتاً أنثوياً لا يهزم. ومن خلال الشكر والاستعانة بالله، نجد ذلك السلام الذي يتجاوز كل فهم، ذلك السلام الذي يجعل القلب مطمئناً عندما يكون الجسد في ألم.
هذه الرحلة، رغم قسوتها، ستنتهي بكِ – بعون الله – إلى شاطئ أكثر أماناً. سينتهي بكِ إلى قلب أكثر رحمة بنفسك وبالآخرين، إلى روح أكثر حكمة ونضجاً، إلى إيمان أعمق وأقوى. ستخرجين منها وأنتِ تعرفين قيمتك الحقيقية، وتعرفين معنى أن تتوكلي على الله حق توكله.
“وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ” (البقرة: 216).
امضي قدماً في رحلتك، بشجاعة الامتنان، وبقوة الإيمان، وباليقين الثابت أن مع العسر يسراً، وأن النور ينتظر بعد كل ظلام. أنتِ لستِ وحدكِ. الله معكِ، يحملكِ عندما تعجزين، ويقويكِ عندما تضعفين، ويشفيكِ وهو أرحم الراحمين.
وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. (الأنفال: 46)
🩷 🩷 🩷 🩷 🩷 🩷 🩷 🩷


اترك تعليقاً